نطاق استقلالية رجال النيابة العامة مقارنة باستقلال القاضاه
 |
استقلالية النيابة العامة،استقلالها محدود خلافاً لقاضي المنصّة |
بالرغم من الاستحسان الواسع الذي لقيه قرار "غرفة المخاصمة" الذي نشرناه أول الأمس والذي خلص إلى أن معاون النيابة العامة لا يتمتع بسلطة تقديرية مثل قاضي المنصّة، وهذا يحتم عليه واجب متابعة دعوى الحق العام حتى نهايتها والطعن بالقرارات الصادرة فيها تحت طائلة اعتباره واقعاً تحت مظنة الخطأ المهني الجسيم.
ولكنه أثار انتقاد عدد من المختصين الذين نحترم رأيهم
إذ لم يتفقوا مع ما ذهبت إليه الهيئة مصدرة القرار ورأوا أن قاضي النيابة العامة يتمتع بسلطة تقديرية تخوله المشاهدة أو الاستئناف وحفظ الأوراق ولا يمكن مصادرة قناعته القانونية. كما أن نزع كل صلاحية من النيابة العامة يجعله يستأنف القرار فقط خدمة للروتين وليس للقانون
وهذه الانتقادات في الواقع شيء طبيعي إذ يصعب تقبل مبدأ قضائي يسحب أو ينتقص من السلطة التقديرية لقاض حتى لو كان معاون نيابة،
ومع التقدير لكافة الآراء التي انتقدت هذا المبدأ، ولكنني شخصياً أتفق إلى حد كبير مع ما اتجهت إليه الهيئة مصدرة القرار، لأن النيابة العامة لها وضع قانوني خاص يختلف عن وضع قضاة الحكم، فهي بموجب المادة 137 من الدستور عبارة عن جهاز قضائي يرأسه وزير العدل، وبالتالي فهي غير مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية.
وهذا ما أكدته أيضاً المادة 56 من قانون السلطة القضائية، واعترف به العلامة "عبد الوهاب حومد" الذي أعدَّ قانون أصول المحاكمات الجزائية حيث قال:
ورئاسة وزير العدل رئاسة حقيقية، ومن حقه إعطاء الأوامر إلى النائب العام))
{أصول المحاكمات الجزائية – ط1987 - ص162}
ويضع الفقيه الكبير "حومد" النيابة العامة في مكانة متوسطة من حيث الحصانة القضائية الممنوحة لها فيقول:
((وضع النيابة العامة عندنا وضع متوسط فأعضاؤها قضاة يتمتعون بحصانة العزل كالقضاة، ولكنهم كالموظفين لا يتمتعون بالحصانة من النقل، لأنه يجوز نقلهم بمرسوم يصدر بناء على اقتراح وزير العدل))
{حومد – سابق - ص165}
وبالتالي نظراً لوضع قضاة النيابة الخاص لجهة ارتباطهم المباشر بالسلطة التنفيذية، ما يفقدهم قدراً لا يستهان به من استقلالهم، نجد مسوغاً منطقياً لما اتجهت إليه هيئة غرفة المخاصمة.
"شوهد" تلك الكلمة السمجة!!
فضلاً عن الاستقلال المنقوص لقاضي النيابة، فقد ساهم السادة قضاة هذا الجهاز بطريقتهم السلبية في ممارسة عملهم مع مرور الزمن، في تعزيز الاتجاه نحو سلب السلطة التقديرية المفترضة منهم، وأبرز مثال للسلبية في تعاطيهم مع وظيفتهم القضائية هو تلك المفردة السمجة "شوهد" والتي يستخدمها قاضي النيابة للدلالة على موافقته على القرار الصادر عن المحكمة وعدم رغبته باستئنافه أو الطعن به!
"شوهد" كلمة وحيدة تنهي سير الدعوى العامّة، بعدم رفعها لدرجة أعلى من درجات التقاضي!
"شوهد" كمفردة وحيدة لا تكفي من حامي المجتمع وحارس قيمه وأخلاقه، لإنهاء دعوى أقامها باسم المجتمع.
أنا شخصياً كأحد أفراد هذا المجتمع، وكمعني بالشأن القانوني لا أقبل من حامي المجتمع، تعطيل دعوى رفعها لحمايته بكلمة واحدة تدعى "شوهد"!
لأن واجب النيابة العامة أن تمارس كافة طرق الطعن بالقرار إلا إذا اقتنعت به، وهذا ما يؤكد عليه "عبد الوهاب حومد" نفسه قائلاً:
((لا يجوز للنيابة العامة أن تعطل سير دعوى الحق العام أي أن تمتنع عن ممارسة طرق الطعن، إلا إذا كان ذلك عن قناعة منها))
{حومد – سابق - ص203}
وعليه، إذا ما اقتنعت النيابة العامة بالقرار فكلمة واحدة باتت عرفاً سائداً كـ "شوهد" لا تكفي للتعبير عن رأي المجتمع الذي تمثله النيابة العامة، وإنما يجب أن تعلل وتذكر أسباب اقتناعها بالقرار، لأن مناط القضاء ومشروعيته هو "التسبيب"، وهذا ما يعبر الفقيه "أحمد أبو الوفا" قائلاً في مرجعه الشهير:
((إذا اقتصرت وظيفة القضاء على إصدار الأوامر دون أن تتضمن سبب إصدارها فإن ميزان العدالة ينمحي، وتنتفي الحاجة إلى الهيئات القضائية، لأن تسبيب العمل القضائي من أهم ما يميز هذا العمل عن العمل الإداري، وفي هدم ضمانة تسبيب الأحكام، هدم للعمل القضائي))
{المرافعات المدنية والتجارية – ط 1975- ص8}
0 تعليقات