القاضي الصالح والقانون السيء
لو قيّضَ للعدالة أن تفوح منها رائحة عطرة، لفاحت من هكذا قرارات.....
عُرضت على القضاء دعوى إصلاحات مأجور، عبارة عن محل تجاري خاضع للتمديد الحكمي، يقع في منطقة "باب سريجة" بدمشق (الشارع المعروف الممتد بين "باب الجابية"، ومصلّبة باب سريجة ذو الأبنية القديمة جداً والتي تحتاج لصيانة دائمة)
الأجرة السنوية له مقدارها 22 ألف ليرة،
قدَّرت الخبرة الفنية قيمة الإصلاح بـ 20 ألف ليرة،
أي أن قيمة الإصلاحات مع رسوم ومصاريف الدعوى قد تستغرق الأجرة التي يقبضها المؤجر لمدة سنتين كاملتين.
تستند الدعوى للمادة 535 من القانون المدني التي تلزم المؤجر بأن يتعهد العين المؤجرة بالصيانة لتبقى على الحالة التي سُلمت بها،
فضلاً عن أن الاجتهاد القضائي يعتبر التزام المؤجر بالإصلاح من متعلقات النظام العام:
((الاتفاق على أن يتحمل المستأجر نفقات الإصلاحات الضرورية في المأجور باطل لمخالفته النظام العام))
{نقض قرار 461 تاريخ 18/ 5/ 1968 - المحامون لعام 1968 ص197}
رأت المحكمة أنه من الإجحاف تطبيق الأحكام القانونية التي تلزم المدعى عليه المؤجر بدفع نفقات إصلاح وصيانة مأجور خاضع للتمديد الحكمي، لأنه سيلحق به ظلم وحيف وغبن كبير، لأنه لن يتمكن من استرداد المأجور في نهاية مدة الإيجار بسبب التمديد القانوني،
فتجاهلت المحكمة بمنتهى الاقتدار واللّباقة النص القانوني الواضح والملزم، واعتبرت بكل جرأة وشجاعة أنه ليس لمثل هذه الحالات وجِدَ القانون، وليس لمثل هذا تكون العدالة.
ولم تتقيد بمتعلقات "النظام العام" معتبرة أن الغبن الذي سيلحق بالمؤجر نتيجة هذه الدعوى لا يمكن أن يكون له مؤيد بالقانون، لأنه لا يمكن لأي تشريع أو قانون أن يغبن طرف على حساب طرف آخر، وأن القانون وجد لإيجاد التوازن بين الطرفين المتعاقدين ولتكون التزاماتهم متقابلة.
وكانت المحكمة على حق في ذلك طبعاً، لأن النظام العام لا يمكن تحديده فهو شيء نسبي ومرن (ليس جامد)، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار "المصلحة العامة"، {السنهوري – الوسيط – ج1 – ف228}
فوجدت المحكمة أنه من المصلحة العامة تجاهل النص القانوني والنظام العام في مثل هذا النوع من العلاقات التعاقدية بين الناس، وقامت بردَّ الدعوى بتعليل سائغ تفوح رائحة العدالة من بين أحرفه،
وهذا تجسيد للمقولة الشائعة بأنه خيرٌ للناس أن يكون لهم قضاة صالحون وقوانين سيئة، بدلاً من أن يكون لهم قوانين جيدة وقضاة سيئون.
رأت المحكمة أن أحكام القانون المدني تطبق في إطار العلاقة الإيجارية العادية، حيث يقوم المؤجر بتمكين المستأجر من الانتفاع بالمأجور لمدة معينة، ويتعهد العين بالصيانة، مقابل التزام المستأجر برد العين المؤجرة بنهاية المدة الإيجارية.
في حين أنه في ظل قانون الإيجارات الاستثنائي بات المؤجر ملزماً بتمكين المستأجر بالانتفاع لمدة غير محددة ممددة حكماً رغماً عن إرادته، ناهيك عن أن الأجرة لا تحددها إرادة الطرفين وإنما دعوى التخمين، وبالتالي نكون قد أمسينا أمام علاقة إيجارية استثنائية ليس فيها التزامات على المؤجر سوى تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين بعدم معارضته بذلك.
وعليه فإن باقي الالتزامات كالإصلاح وغيره، فلا يُلزم بها المؤجر نتيجة لسقوط ما يقابل ذلك من التزامات على المستأجر برد العين المؤجرة بنهاية المدة.
وبالتالي عندما يسقط التزام المستأجر برد العين، يسقط معه التزام المؤجر بتعهدها بالإصلاحات،
من ناحية ثانية قامت المحكمة بإجراء قياس وإسقاط ومقارنة رائعة وممتعة بين حقوق مالك حق الانتفاع كحق عيني عقاري، وحقوق مالك المتجر (الفروغ) فقالت:
((إن العقار المأجور للعمل التجاري، بات متجراً يملكه المستأجر، أي أنه يملك الفروغ، بمعنى أنه يملك حق الانتفاع، وإن كان لا يملكه عينياً في السجل العقاري، إلا أنه يملكه شخصياً ويمكن له بيعه للغير، بل إنه في مركز أفضل من مالك حق الانتفاع عيناً، إذ أن الأخير بوفاته يعود الحق لمالك الرقبة، أي المؤجر فرضاً، في حين أنه بالعلاقة الإيجارية الممددة حكماً للمحل التجاري والذي بات متجراً، فإنه بوفاة المستأجر ينتقل الحق لورثته، ويعدُّ من أموال التركة))
وبناء عليه لا يمكن إلزام المؤجر الذي بات بمركز مالك حق الرقبة بإجراء الإصلاحات للمتجر الذي يملكه المستأجر،
إذ أن الالتزام بالإصلاحات هو للعلاقة الإيجارية العادية الخاضعة لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، والتي يحدد فيها المؤجر الأجرة بما يناسبه ويسترد في نهاية المدة الإيجارية عقاره المؤجر، فيعود نفع الإصلاحات بالفائدة عليه، ويكون قد أدى التزامه بتمكين المستأجر من الانتفاع مقابل الأجرة التي اختارها بنفسه ولم تفرض عليه،
أما وأننا أمام علاقة إيجارية ممددة حكماً لا يسترد فيها المؤجر عقاره، ولا يحدد فيها أجرته، ولا خيار له في قبولها أو رفضها، فإن إلزامه بالإصلاحات فيه غبن كبير له، إذ بات كمن يصلح في ملك غيره باعتبار أن المتجر ملك للمستأجر،
الأمر الذي يوجب رد الدعوى باعتبار أن التزام المؤجر بالإصلاحات بات ساقطاً لسقوط ما يقابله من التزام المستأجر برد العين.
وهكذا نستطيع أن نستخلص من الحكم المذكور المبادئ التالية التي وردت بحيثياته:
((لا يعقل أن نكون أمام علاقة إيجارية استثنائية ممددة حكماً، ثم نطبق النص العام المتعلق بالعلاقة المحددة المدة، إذ تمسي التزامات الطرفين في هذه الحالة غير متقابلة وغير متكافئة))
((إن أصل وعلّة إلزام المؤجر بالإصلاحات هو أن العقد شريعة المتعاقدين وأن الأجرة محددة بالتراضي، ولولا هذه الأجرة لما أبرم المؤجر العقد، فهي الباعث والدافع والسبب المباشر للعقد، وبالتالي فإن المؤجر يستوفي الأجرة كما يريد وللأجل الذي يريد، ونتيجة ذلك يتعهد المأجور بالصيانة ثم بالنهاية يسترجع عقاره، أي أنه يقوم بإصلاح عقاره وسيقوم باستثماره ثانية لمنفعته الشخصية أو للغير وعلى الوجه الذي يريده))
((لا يعقل أن يقوم المستأجر بدفع الأجرة وإصلاح المأجور الإصلاحات الضرورية ثم يسترجع المؤجر عقاره، ففي ذلك غبن للمستأجر أُزيل عنه بإلزام المؤجر بهذه الإصلاحات،
ولكن في العلاقة الإيجارية، الممددة حكماً، التي لا يسترجع فيها المؤجر عقاره، فإن إلزامه بالإصلاحات فيه غبن وإرهاق له، وهو ما تعمد المشرع رفعه عن المستأجر بالعلاقة الإيجارية العادية))
-----------------------------------
ملاحظة:
رضخ المدعي للقرار ولم يطعن به،
نقول دائماً أن الاجتهاد والإبداع يبدأ بمحاكم الموضوع، وليس شرطاً أن يصدر من محاكم القانون، وإذا ما رجعنا للسنهوري في وسيطه، نجده يستند في غالبية آرائه، لقرارات محكمة الدرجة الأولى.
وفي النهاية لا يسعنا سوى توجيه التحية والتقدير للقاضي المبدع الأستاذ "طارق برنجكجي" مع كل التمنيات له بالتوفيق.
0 تعليقات