الناس في زمن العدل والظلم - مقال قانوني

الناس في زمن العدل أهم مقومات العدل، والناس في زمن الظلم أهم مقومات الظلم .. 

ما لكم أيها الناس أرى كثيرا منكم يأبى أن يحتمل العدل، وليس يستند إلا إلى حجج باطلة، فليست العدالة أن يعفى ذو منصب من المثول أمام القضاء، ولا أن يقضى له لمكانته، فما ذلك إلا رجوع إلى الجاهلية الأولى، وما كان العدل يوما أن يقضى على الضعيف لضعفه، ويترك غيره لحيثيات واهية، وادعاءات باطلة، فالعدل إسناد الحقوق إلى أصحابها، ومنع إجحاف الظالمين؛ دون النظر إلى ما يجب صرف الأنظار عنه. 

محامي في دبي

وفي هذا أسوق إليكم أعزائي؛ بعضا مما نص عليه المؤرخون في كتبهم، وما يلي في الحقيقة غيض من فيض ...

حيث ذكر أن رجلا قدم شكوى إلى عبد الله بن طاهر القائد العباسى المشهور، فقال له: من خصمك؟ فقال الرجل: أنت أيها (الأمير) أيدك الله. 

فقال: ما الذي تدعي علىّ؟ قال: ضيعة* لي في هراة* غصبها والد الأمير وهي اليوم في يده.

قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة أمام القاضي.

وآنذاك لم يجد الأمير -عبد الله بن طاهر- حرجا في دعوة القاضي العادل: نصر بن زياد؛ حتى يمثل كلاهما أمامه، ويقضي فيما بينهما، وبعدما حضر القاضي نصر بن زياد؛ انعقدت جلسة المحاكمة للفصل بين هذا الرجل والأمير، فقال الأمير للرجل: ادّع، فادعى الرجل حجته مرة بعد مرة، فلم يلتفت إليه القاضي ...

ولم يسمع دعواه، فعلم الأمير

 أنه قد امتنع من سماع الدعوى حتى يجلس الأمير -الخصم- مع الرجل -المدعي- أمامه في مجلس الحكم، فقام الأمير من مجلسه وجلس بجانب الرجل بين يدي القاضي، وعندئذ قال القاضي للرجل: ادّع، فقال: أيد الله القاضي إن ضيعة لي بهراة -وذكرها بحدودها وحقوقها- هي لي في يد الأمير .. فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل قد غيرت الدعوى إنما دعيت أولا على أبى، فقال له الرجل: لم أشته أن أفضح والد الأمير في مجلس الحكم أمام القاضي وأقول والد الأمير غصبني ضيعتي وأنها اليوم في يد الأمير .. فسأل نصر بن زياد الأميرَ عن دعواه فأنكر، فالتفت إلى الرجل وقال: ألك بينة؟ قال: لا.. قال فما الذي تريده؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو، فقام الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه.

فهذا نموذج لأمير عادل عاقل حكيم شريف أمين

على الرغم من عظيم شأنه ومكانته، إلا أنه لم يتردد في أن يمثل إلى القضاء، ولا أن يمكن صاحب حق من حقه؛ بموجب ما له من سلطان وولاية، ولم يقل: أنا رمز فلا ينبغي أن أحاكم ويصدر حكما ضدي، أو أمثل أمام القضاء، ولم يهتف أنصاره بأن هذا رمز لنا ومحاكمته والحكم ضده تعني النيل من كرامتنا، وغير ذلك من الشعارات الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، "ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" ، "كل نفس بما كسبت رهينة"، فلا يؤخذ أحد بجريرة غيره، ولا حاجة لتقديس من لا يستحق العصمة والتقديس، ولنكن مع الحق دوما؛ فالحق أحق أن يتبع، ونعلم أن القضاء منوط به الفصل بين الناس في الخصومات وبيان المبطل والمحق، وعلى المدافع أن يدافع عن الحق، وتحرم عليه الخصومة من أجل الخائنين، فالله تعالى قال: "ولا تكن للخائنين خصيما".

___________________

* ضيعة: أرض تدر على صاحبها مالا.

* هراة: اسم مدينة
*الكاتب جمال الدين عبد الرحمن